"سلامات.." لا تبدو بشائر الخير على وجهك سيدي ..
أيعني هذا أن أحدهم أدرك حقه في مامعك ؟ واكتشف أن الأرض التي تلتصق بها كدجاجة تدفئ بيضها هي ملك له .. أم قصورك التي تملأ أشبار البلاد .. وجدوا رماد صك ملكيتها في أحد المداخن لينام مالكها الحقيقي على حافة الرصيف .
لن ندعهم يكتشفوا أن أسياد القوم هم اللصوص .. ليقيموا عليهم القصاص وتقوم معها الشماتة !
لا تيأس .. غدًا سننبش قبر المومياء .. من أيام الجاهلية .. في ظلام الليل.
كما سرقنا أموالهم سنسرق النوم من أعينهم .. سنوقض الوحش النائم .. سنفتح صندوق باندورا على أهل هذه البلاد .. حتى يقتل المواطن مواطنه ونعيش نحن ..
سنسجن من فتح فمه وطالع لقمتك.. سنسلب الجرائد أخبارها .. فلا يبقى غير خبر فتح أحد المطاعم ..
سنملأ الأرض دماء .. سننقل المعاناة ونجعلها أحد معالم الوطن .
غدًا سيدي .. سأسب جميع الطوائف وألعن الأصول ... سأجعل عالي القوم سافله وسافل القوم عاليه سأقلب الأمور حتى ينشغلوا ببريق سيوف الطائفية عنا نحن وسرقاتنا !
..................................................................
افتح الشباك ليتداخل الهواء على هذه الحجرة الكئيبة.لكي أشعر برئتي يتسلل إليها الأكسجين ولا نصبح أرواحًا تتقاتل على نفس واحد
.. لكي لا نشعر بالبغضاء على ورقة صفراء تسقط بحرية.
افتح الشباك قبل أن تُحرقنا النار التي أشعلناها .
جميعًا فلا يبقى منا سيد ولا عبد !
سوى ذلك الكلب الذي كان ينفخ على شرار النار ليزداد اشتعالاً .. وقد هرب منذ رأى اللهيب الحارق
ابتدأ الشتاء .. ابتدأت انتظر لقاء المطر ..لقاء إيقاعات زخاته , ترميني إلى عالم آخر .. صوتها المخملي الذي يدفئ أسماعنا .. رائحة الحياة المنبعثة معها ..أشتاق للخروج .. للوقوف تحت المطر إلى آخر زخة .. او الوقوف تحته حتى أمرض .. يلحقني الصغار .. فيفعلون بالضبط ما أفعل .. يقفون تحت المطر , ثم تطل علينا أمي من النافذة " هنوف ادخلي لا تمرضين " .. اصمت قليلاً ثم أنصاع للأمر .. ومالعيب في أن نضحي لنفعل ما نحب ؟ ..
لأن كل شيء يتغير مع بداية هطول المطر وبداية فصل الشتاء .. شهران فقط نضحي فيهما لنفعل ما نحب !
أحب الشتاء لأننا حتى في نهاره لا نسجن مشاويرنا في أقفاص حديدية مغلقة .. نستطيع أن نمشي في الشوارع الداخلية دون أن تحرقنا الشمس بلهيبها فحتى إذا كشَرت عن أشعتها .. عادت الغيوم لتطردها عن أجسادنا المحبة للغيم ..
حتى الشوارع الكريهة حين تستنشقها تشعر برائحة المطر الذي عانقها لوقتٍ ما .. وعبير لعطور زهرية جميلة .. تزخر حوافها التي لم يطلها الاسمنت بزهور ( النويَر ) الصفراء .. تذكرني بسنينٍ مضت عندما يوقف أبي سيارته محاذيًا للرصيف فأنزل وأقطف إحداها مسرعة قبل أن يراني أحد .. وكأنما سرقت جواهر , أررركض في وقت قياسي قبل أن يضاء الضوء الأخضر للإشارة وكأنها ان سبقتني سيذهب أبي ويتركني مع الزهرات لوحدي !
حدثته بالأمس ان كان يذكر ما قلته .. فقال اني في مرة من المرات أجبرته أن يقف وينتظرني حتى أنزل وأقطف زهرة من شارع الخليج !
أو قوس المطر .. الذي مللت انتظاره من العام .. له قصص في هروبه من أيدينا الصغيرة , نجتمع كلنا الأطفال كقوة واحدة .. نقفز لنمسك بأحد أطرافه .. نفشل .. نذهب إلى ناحية أخرى ونجرب .. يأتي الكبار فينهونننا عن ذلك " هي مجرد ألوان في السماء لن تستطيعوا امساكها " تتناقص اعدادنا .. اذكر انني بقيت مع أختي وابنتا عمتي وابن عمي .. وهو يصر على أنه أكبر واحد فينا لذا هو من سيصطاد القوس .. فشل .. لكنه أوهمنا بأنه لمس أطرافه فعلاً لأنه مل وأراد أن يلحق على الغداء .. وأنا أيضًا سريعًا مللت كنت واقفة لا أحاول , فقط أنظر لهم لأنهم كبار الحجم ولم يستطيعوا من إمساكه فكيف سأمسكه أنا !
ولكنني مرة أخرى حاولت فأخذت أركض في الأرجاء وأقفز .." السماء هناك أقرب " اقترب .. لا أستطيع الوصول إليها .. أمي تتأفف .. ولكنني مصرة على أنني لن أرحل حتى أصعد السماء .. وفي النهاية أطرقت برأسي .. لأن نظرية الجميع صحيحة ونظريتي فاشلة !
كنت أذهب لحديقة بيت خالتي المليئة بـ( أم علي ) أو كما يسميها البعض ( بنت المطر ) لنجمعها جميعًا في زجاجات الماء .. ومن يجمع أكثر يفز .. ولكن كانت إحدى الخادمات دائمًا ما تنهانا قائلةً : بأن الحشرات تدخل إذن الطفل الذي يجمعها وتقتله .
لم نكن نستمع لها في البداية بسبب خبرتنا في أم علي و عنادنا الطفولَي .. لكن مع إصرارها بدأت عقولنا بالتخيل وإصدار الأحكام على هذه المخلوقات الضعيفة .. لفترة ما أصبت بالفوبيا منها لكن مع الوقت تشربكت علاقتنا أكثر فأصبحت تارة أقتلها .. وتارة أهرب منها .. وتارات أذكر الحديقة المليئة بأم علي والوانها الزاهية ...
حتى النمل المؤذي لا نرى أثره في الشتاء .. اختبأ عن البرد وعن المطر وعن الشتاء .. كأنما يحاول إبقاء اعضاءه الزجاجية في مأمن من التهشم .. والغرق في محيط قطرة المطر .. بينما في اليد الأخرى هو عكس الورد الذي خرج للقاء البرد والمطر والشتاء ..
كان يقف هناك .. بجانب مدخنة وحائط مليء بكلمات غبية .. لا يستطيع تهجئتها من كتبها حتى !
أردت أن أسمعه .. أن أضحك قليلاً عليه ..
ذهبت ناحيته ووجدته ينفت آلامه فيتراكم الدخان حول ترانيمه المُطلسمة
ينظر للسماء ثم يشير بسبابته المنحنية : أنا ا ا هن .. هناا !
لا مكان محدد في السماء يشير إليه .. متبعثر وجوده في ذلك الفضاء فيتأتئ أناا .. هناا .. يمسح دمعه المجنون ثم يبتهج .. يشعرني بأن ما سقط من عينيه إحدى النجمات الواقعة من السماء وليست دمعه
ينفخ مرة أخرى .. تحت عيناه سواد رهيب كذنوب مدمن لم يشفى من الأوهام .. ثم يصيح ويرتجف " برررررد "
تقدمت خطوات ووقفت " مازلنا في شهر يوليو , أين البرد ؟ "
باصرار على أنه الشتاء يجيب :
أنا متأكد بأنه برد .. لذلك أهديت حبيبتي كبريت .. منذ زمن لا تمر على كلماتك الشموس !
نظرت للسماء :
-أنا متأكدة بأنه يوليو لذلك أهديت قلبي بحرًا
ضحك المجنون وحك شعره الأشعث .. ثم أشار إلى أنفاسه :
- كيف إذن أنا هنا ! .. أنفاسي دخان لسنا في يوليو
أنا هنا أقف في خرائطك الدخانية ... أنا إحدى كلماتك الثلجية لا يوجد دفئًا فيها .. غير الأرواح الحقيقية التي تتخبأ بين السطور .. وتجد مكانها بيننا نحن المقبورون في الأوراق !
لذلك دائمًا تظهر ملامح أنفاسنا الدخانية .. لأننا دومًا في شتاء !